"الكتابة دائمًا ما تعطي شكلاً من النظام
لفوضى الحياة، إنها تنظم الحياة والذاكرة"
إيزابيل الليندي
كان هذا الصباحُ متعبًا للغاية تنبعث منه رائحةُ الضجر والملل، ومع كلِّ هذا حاولتُ إجبارَ نفسي على إحداث بعض التغيير والتجديد، لكنني حقًا لا أعرفُ كيف أبدأ يومي؟
هل أبدأه بكتابة قصة أو مقالٍ ..، أو أرسم رأس أفعى وأفرغ سمها في كأس لأقدمه هدية لمن أكره، أو ألعب لعبة الــ Sudoku تلك التي أغرمت بها منذ زمن ليس ببعيد، أو أقرأُ كتابًا، أو رواية اخترتها بعناية ولكنها لازالت ملاقاة فوق سريري فقد مللتُ أحداثها الرتيبة..، أو أمارسُ الرياضة الصباحية، أو أصغي قليلا لبعض الأغنيات الفيروزية.
- لستُ أدري؟!
الركض نحو الأشياء والأشخاص مرهق جدًا، والبحث عن الفوضى التي بداخلنا وترتيبها بشكل يومي أشدُّ إرهاقًا! فلم يعدْ ثمّة فرح نستطيع استحضاره، حتى الذكريات كلَّما حاولنا جلبها فإنّها تغدو محاطة بالسواد والحزن والقتامة دائمًا..
فجأة قررتُ الكتابة أسهل الأعمال بدنيًا وأصعبها نفسيًا وفكريًا، ومع هذا فقد قررت أنْ أكتب فلدي رغبة عارمة نحوها، فهي قادرةٌ على تخليصي من أزماتي النفسية، وإفراغ هذا الضجيج والصراخ الذي يسكن روحي، إنَّها بديل عن الأشخاص الذين يتضجَّرون من سماعنا وسماع مشكلاتنا ومعاناتنا، فهي تتحملُ غثيث أفكارنا وعبث هواجسنا.
هل أكتبُ الآن باعتبار الكتابة روتينًا بغض النظر عن الجودة على حد تعبير "تولستوي"؟ أو أكتبُ لأنني أعيشُ هنا وحدي بين هذه الأشياء الصغيرة التي تملأ عالمي الباهت.. كتبي، أقلامي، كوب قهوتي، أوراقي المبعثرة هنا وهناك...، أو أكتب؛ لأنَّ للكتابة لذة لا يمكن أن أدركها إلا بعد الانتهاء منها، أو لأنَّها تمنحني وجودًا معنويًا وعالمًا خاصًا؟؟ أو لأنني أجدُ فيها المساحة الكافية والحرية لأعبِّر عن نفسي وعمن حولي، لذلك كانت معركتي الصغيرة هذا الصباح مع الكتابة وطقوسها، إنَّها تعويذة لا يمكن فكَّ أسرارها إلا بتمائم محصنة ووصفة سحرية.
الكتابةُ ولادة ومخاض لفوضى عارمة بداخلنا، لعطب ما أحدثته الحياة في قلوبنا، لشطب هنا وخدش هناك بحاجة لترميم، لصدمة أحكمت سيطرتها فينا ولم نتمكَّن من اجتيازها، لصورة مشوهة في مخيلتنا لعالم غير واضح الملامح، لهواجس ظلّت حائرة مسجونة في مستودع ذاكرتنا.
الكتابة غياب في عوالم اللاوعي، شيء يجذبك لقاعه فتسقط في فخه، هي صياد ماهر قادر على اقتناصك وإيقاعك في شركه بعد خوض متاهات اللعبة التي اختارتها لك بعناية.
الكتابةُ لعبة محكمة الأداة تحرِّرك من عالمك الحقيقي لعالم ممزوج بالوجود على الرغم من عزلتك، الكتابةُ حيلةٌ غامضة تتسرَّبُ منك شيئًا فشيئًا وتجعلك تتوه في حلَّ رموزها لتقع في شرَكِ الأسئلة.
لكن لمن تكتب؟ هل تكتب لنفسك أو للآخرين؟
أن تكتب للآخرين فأنت تخضع نفسك لمزاجيتهم لتصوراتهم لنظام حياتهم وتخرج من معركتك معهم خاسرًا، أما عندما تكتب لنفسك، فأنت تخوض معركتك وحدك لتكون المنتصر الوحيد فيها ولا خسارات.
إنَّ الكاتبَ الحقيقيَّ عندما يكتبُ فهو يكتبُ؛ لأنّه بحاجة لبعثرة حماقاته على الورق، لكبح جماح جنون رغباته، وليعبِّر عن فشله وإخفاقاته، وليبحث عن الحقيقة في عالم مزيف يزوِّق كلَّ شيء ويلوِّن الباهت من كلِّ شيء، يكتب ليبدو أكثر عقلانية وأشدّ فوضى وأحسن تنظيما، يكتب؛ لأنَّ الكتابةَ وجود وحياة، ولأنَّها بعثُ وخلق للعدم الذي يربكه، يكتب ليرسمَ عالمًا مثاليًا فشل ذات يوم في تحقيقه، يكتب ليطمسَ هذا الوحش القابع في روحه، يكتب؛ لأنَّ في الكتابة نكوصًا يجعله يسترجع الماضي ويعيد ترتيب أحداثه وصياغته بالطريقة التي تروق له، يكتب؛ لأنَّ الكتابة سعيٌ دائم نحو المجهول المرتقب.
إنَّنا عندما نكتب خربشاتنا على الورق فإنَّنا نكتب لنرسمَ فوضى وساوسنا ونرتبها، لنرصد أحلامنا وننظمها، لنبعث أرواحنا من جديد، ونخلق نماذج نتمناها في واقعنا، نكتب لنعيش مع شخوص مبهمة لواقع اصطدمنا بشخوصه، نكتب لنتحرّر من إيقاعات حياتنا الرتيبة المملة، نكتب لنهدر هذا الوقت الفارغ من الأشخاص الحقيقين، نكتب لنحمي أنفسنا من عزلتنا الإجبارية، نكتب لنبثَّ في الحياة الأمل ونمحو الوجع والرتابة، لندون أفكارنا وننعتق من أفكار الآخرين، نكتب لنلتقط الصور الحزينة والمفرحة ونبعثرها على الورق، وكلٌّ يغنِّي على ليلاه، نكتب لنعزف أجمل الألحان على أوتار قلوبنا الصدئة.
إنَّ الكتابة معركة بلا أسلحة معركة خيالية أبطالها يجيدون التسلل والسيطرة ثم الإحكام، معركة لا تحتاجُ منك إلا لبعض الأدوات والكثير من القوة لخوض معتركها، تترصدك وتظل تتوه بداخل عقلك لتستحضر سيناريوهات وأحداث وعوالم مستبطنة، ثم تشرع في الانهمار والتدفق.
الكتابةُ رقص على دفتر الحياة، أغنيةٌ لأسئلة عطشى، وعزفٌ على أوتار الذكريات الحزينة، ورسمٌ على لوحة الحياة العابقة بالأمنيات، هي أحجيةٌ لكسر الزمن وتدفقه، والوقوف عند زمن مكتظ بالفرح، ولحظةٌ أبدية نعيش فيها مع أحلامنا ونحلِّق بها، إنَّها كمينٌ لأولئك الذين يريدون أن يجتازوا هشاشة الواقع ليرتِّبوه، هي جمهورٌ كبير من المصفقين المعجبين أو الكارهين الذين يترصَّدون ليخلعوا عليك المسميات.
هي شكٌّ مهاود ومخاتل يسرقُ منك هدوءك وصمتك لتحيا تحت وطأة الأسئلة، ويقينُ يتسلحُ بالتأني والحياد، هي ينبوع يتدفَّقُ على صفحات الورق يصعد .. يهبط ليكون رهن إشارتك، هي تلويحةُ طفل يودِّع لعبته الأثيرة بعد أنْ هشَّمها.
هي صراعٌ بينك وبينك، وشغفٌ يربكُ وجودك، نخبُ المنتصرين ببطولتهم، وشقوة المهزومين في معاركهم، وغواية المخطئين بخروجهم من جنتهم.
هذه هي الكتابة وهذا هو فعلها، فإمَّا أن تكنها وتكمل مسيرتك في رحابها متسلحًا بكلِّ أدواتها وإمكاناتها واستراتيجياتها، وإلا فتوقف!!
اليوم الثاني
إنَّ العزلة أحيانًا تعلمنا أنَّ الأشياءَ التي
نراها كلَّ يوم هي الأقربُ إلينا من الآخرين"
هذا الصباح حاولتُ جاهدة اختلاق مشكلة مع كوب القهوة الذي أحب، فقد تولَّدت بيننا هذه العلاقة ذات يوم لا أذكر بالضبط متى؟ لكني أذكر تفاصيله جيدا، ففي ذلك اليوم وعندما شممت رائحة القهوة تركت وشمها عالقًا في صميم الذاكرة هي وهذا الكوب الفينيسيّ، لقد كان يومًا غريبًا ممزوجًا بالحب وبعض الحزن، الحبُّ الذي ما زال يمطرُ قلبي كلَّما تجرَّعتُ جرعات من هذه السمراء الذهبية، الحبُّ الذي يجعلني أوكلُ للصمت والحيرة أمر هذه المشاعر المختلطة لتلونهما ببعض الدهشة، أما الحزنُ فقد أقسمت لنفسي أنَّي لن أعودَ لتذكره ولن أفعل، لكنني وفي كلِّ مرة وبسبب هذه العلاقة الثنائية الوطيدة بيننا أتجرعه يوميًا.
آهٍ من هذا الحبِّ الذي يدمرنا ونستلذُ به بل ونتجه صوبه ونخوض معتركه غير مبالين بكلّ التحذيرات التي قالها المجربون لنا، هذا الحب الذي يدخل مملكة القلب بلا استئذان وحين يريد الخروج فإن الأبواب توصد وتغلق، الحب الذي حار فيه الفلاسفة ولم يصلوا معه لتفسير، هو كالمعادلات الكيميائية التي تحترق وتنصهر معا ثم النتائج تختلف وتتغير بحسب نجاح التجربة، إنه معادلة وجودية مرعبة.
حقًا أستغربُ من هذه الخلطة العجيبة التي تجمعُ الأشخاصَ والأشياء فيقعون في هذا المسمى حبًا، أتساءلُ: هل حياتنا فعلا تدور حول الحب الذي هو محرك الوجود كله ومحدث له؟! وهل لولاه ما صح طلب شيء؟! هل هو لذة ورغبة جامحة لا تنتهي، أم هو سعادة مطلقة أو كما قال "سقراط" فلسفة بائسة تنتهي بحياة تعيسة، لا أعرف، كل ما أعرفه عن هذا الحب أنه جدلٌ قائم بينك وبين نفسك بحيثُ يقيم معها علاقاتٍ متضاربة ومتباينة وشاسعة جدًا، ومعاركَ تحتاجُ لعدة وعتاد، وطيفًا قادرًا على التخفي في روح الذين نحبُّهمّ..
أعود لكوب قهوتي الذي أحب وأتعارك معه كل صباح، يا لهذه المعادلة المتضادة؟! إنها علاقة الحب للحب عندما ندرك أن الآخر يحبنا ونحبه فإننا نتعارك معه لإيماننا الحقيقي أنه لن يفعلها ويتركنا، رمقتُ الكوب مرة أخرى رمقة حب فقد نشأت بيني وبينه علاقة توثقت يوما بعد يوم، فهو الوحيد القادر على امتصاص غضبي حزني معاناتي بل وأحيانا تقبل مزاجيتي وبما أنّ كوبي هذا الذي اشتريته من جزيرة مورانو الفينيسية (جزيرة الزجاج) وأعجبتُ به منذ رأيته ولم أتراجع عن اقتنائه بالرغم من شكله الذي يشي بالكثير من الخوف، بحيث رسمت عليه بعض الرموز الغريبة والطلاسم إلا أنني لم أندم قط على اقتنائه، فقد كان كوبًا عجيبًا ومدهشًا.
كالعادة أعددت كوبًا من القهوة وارتشفت بعضا منه وأنا أسمع "فيروز" وهي تغني (آخر أيام الصيفية) متأملة هذه الرموز والرسومات العشوائية، أفكر بصوت مسموع عن معناها وكيف رسمت بهذه الأشكال المخيفة، كنت أحاول أن أفتعل أية مشكلة معه فهو الوحيد في هذه اللحظة يمكنه أن يصغي إليّ ويكسر رتابة الصمت الذي يملؤني، أطرحُ الأسئلة وأجيب عنها أبدأ الحديث في موضوع ثم أنهيه، أحاول أن أفكَّ بعض طلاسم هذه الرموز بصوت مسموع، أتساؤل: هل كنت محظوظة بهذا الكوب، نعم أنا محظوظة، لأنني أول من أرتشف منه، وبينما أنا كذلك إذا سمعت صوت قهقهة صادرة من كوبي، حدقت مليًا وإذ به يكسر هذا الحاجز الرتيب ويضحك على تساؤلاتي التي يراها كراقصة لا تجيد فن رقصة (البرغاماسكا) الشعبية، قائلا:
علمتنا أفواهكم أن نصمت ونفرغ ما بداخلنا في بطونكم، أن نقاسمكم هذا الضجر والملل وتلك الرغبات العارمة واللذة الطافحة التي تقبع بداخلكم، أن نستمع لأسئلتكم التي تبدو غبية وسخيفة أحيانًا وحزينة مملة أحاين أخر، أما أغانيكم فهي ضجرة تشبه أرواحكم، تتخذون منا متكأ لكل أحزانكم وترافقوننا فقط في لحظات هذيانكم وتخبئون ابتسامتكم وفرحكم عنا.
كلُّ تلك الأفواه التي مرّت علي كانت كفيلة بخروجي عن صمتي، كلُّ تلك الأسئلة الباهتة والترَّهات التي تبثونها أنفسكم عندما ترتشفون من هذا الكوب قهوتكم المفضلة التي تتفننون في اختيار أنواعها، بدت لي عادة اعتدتم عليها وتقليد سرتم عليه، كلكم تتخذون نفس المشاهد وتصيغون ذات الأسئلة وتعيشون نفس اللحظات.
تبًا لكم ولأفواهكم القذرة المليئة بالبغض والكره تلك التي تصدر منها روائح متعددة من الطبائع البشعة، والتي تنبعث منها رائحة التبغ المقيتة، لكنني قررت في إحدى المرات ألا أحكم على أحد من شكله فأنتم متعددو الأوجه والأشكال لا تنبئ أشكالكم عما بداخلكم منافقون كاذبون مدعون، أذكر مرة بأحد المقاهي القديمة حيث كنت من مقتنياتها أن دخل رجلٌ بدأت على ملامحه الحزن ومما زاد هذا الحزن تلك التجاعيد الخفيفة تحت جفنيه ولون وجهه الشاحب المائل للأصفر كان يبدو متسخًا ولكنه ليس كذلك، وقد تخلف هذا الانطباع المسبق بالاحتقار، لذا كنت متخوفًا من أن يكون هذا الرجل الحزين القابع في آخر ركن في المقهى من نصيبي، وكان كذلك، لكنه لم يكن كالآخرين كان رجلا مختلفًا يحمل بداخله المعنى الحقيقي للرجولة حكى لي قصته التي جعلته يرتدي هذا الزي كان ممثلا يؤدي أحد الأدوار في أحد المسارح القريبة من المقهى، ومع هذا كان رجلا مسليًا لأبعد الحدود سكب بداخلي فرحه المكتظ وشغفه بالحياة، عندها تعلمت أن القيمة الحقيقة للآخرين تكمن برؤية دواخلهم واكتشاف مكنونهم، وليس من خلال أشكالهم وملامحهم. ومنذ تلك اللحظة لم أعر اهتمامًا لأشكال الآخرين، بدأت أركز فقط على كوامنهم وما يخفونه في صدورهم.
كنت أقوم بتأدية دوري بإتقان وحرص شديدين كما علمني هذا الممثل البارع.. أؤدي دوري مع التافهين الذين امتلأت عقولهم بالفراغ ..
مع المتسكعين الذين لا مأوى يأوي أرواحهم قبل أجسادهم...
مع الراكضين إلى مقرات أعمالهم وهم مجبورون على هذا العمل أو ذاك..
مع المراهقات الفارغات إلا من الزينة..
مع العشاق الذين غادروا إلى أرواح من عشقوا..
مع الحمقى الذين ملؤا هذا العالم غباء ..
مع المهرطقين الذين امتلأت عقولهم بالفوضى واللا شيء...
ومع المنحلين الساقطين في وحل الجرائم والسرقات والاغتصاب..
بل حتى مع المجانين الذين يعيشون مع هذيانهم وفصامهم العقلي..
مع كل هؤلاء جميعًا أستطيع أن أتقمص الأدوار وأجيدها مثلكم تمامًا أستطيع أن ألبس الأقنعة المناسبة التي تناسبكم، فمعكم ببساطة استطعت وبكل براعة إجادة كل دور..
فأنتم الوحيدون القادرون على لعب كل هذه الأدوار في وقت واحد، والتلون ولبس الأقنعة، وقد أتقنت لعبتكم..!!
اليوم الثالث
"الأيام تتسابق كأعمدة النور
التي تراها من نافذة قطار"
أحمد خالد توفيق
عاداتنا الصباحية تتشابه كثيرًا، نمطٌ حياتيٌّ رتيبٌ بعض الشيء يشي بالسكون والهدوء كأوراق خريفية ملقاة على رصيف ومبعثرة هنا وهناك، نستيقظ صباحًا دون أن ننظرَ للوحة الماضية من حياتنا دون أن نقرِّر ماذا سنفعل هذا اليوم، وما هي خططنا له؟
أحيانًا أستيقظ أرافق يومي وكأنني في نزهة لحديقة مليئة بالزهور العطرة، وأنسى أنني بالأمس خضتُ معاركي اليومية مع كل شيء، وأحيانًا أخرى أستيقظ وأتصارع مع الآخرين وكأنني في حلبة صراع أو في رحلة برية لصيد وحش، متناسية أنّ الوحوش الحقيقة تقبع وتسكنُ داخلي!!
هناك فراغاتٌ شاسعة في داخل كلٍّ منا تشعره بالهزيمة بعد أن خاض معركته مع ذاته والآخرين، هناك مساحات صدئة تتملَّكنا، هناك شيء يختبئ في رفوف أرواحنا ولا نستطيع تحديده نحاول اقتناصه لكنه في كل مرة يبتعد ويتخذ اتجاهات ومتاهات متعددة.
ها هو اليوم بد كعادته متوحِّدًا مستوحشًا إنَّه يوم الجمعة يوم روحانيٌّ مختلف بالنسبة لي يوم يشعرني بالسكينة بالصلح مع ذاتي، بضوء يتسلل لزوايا الروح، هو يوم أمارسُ فيه كلَّ طقوس جنوني وأكسرُ أجنحة الصمت بيني وبيني، أتأملُ فيه الأشياء وتفاصيلها، أتأمل الستائر المزهرة والضوء الخافت الذي ينبعث منها ليكوِّن ظلا لبعض الصور المشوشة، أتأمل لوحة معلقة على الحائط وأخترع صورًا وأشكالاً لا يمكن لأحد أن يتخيلها ناهيك عن أن يقوم بجمعها، أتأمل أتفه الأشياء حولي بل حتى رغباتي المحمومة لا تخلو من هذا التأمل رغبات الجسد الطافح بحمى الشهوة والنزق، ورغبات الروح التي تعكس فطرتنا الأولى .. هو يوم أتوارى فيه عن الآخرين، طقوس مجنونة في معبد تملأه الصلوات والدعوات، وتلتفُ حوله تسابيح من تمتمات غير معروفة.
في هذا اليوم أتأمل فيه الخواء الذي يسكن روحي، وأجهش بكاء لهذا الصمت القابع في أعماقي، لتلك الطفلة التي تقاسمني الكثير من الحزن وبعض البهجة، لشريط الحياة الذي أضعتُ كثيرًا من فرصه بل ومزقتُ بعضها بيديّ، للدهشة التي لم تعد تعانقني فكلُّ الدهشات التي مرَّت بحياتي لم تكن مقنعة لتتملكني وتلقي بتعويذتها في ثنايا الروح، هكذا نحن.. بشرٌ طماعون.
هو يوم يتنفس ككلِّ يوم يحرِّك الساكن فيّ، يضيء الجانب المظلم ويمتطي صهوة الفرح ليدلني على الدروب المضاءة، وبالمقابل فهو يوم مفخخ يفرغ صمته علي لألثم ذاتي ويفجرني بالأسئلة وأقعُ في فخها، ثم يراوغني للهرب، بعد أن استدعى كل الوحوش الضارية واخرجها من دهاليزها لأقع وحدك فريسة هذا الصراع.
شريط لفيلم سينمائي أستحضره يوم الجمعة فتصدر مني أصوات قهقهات مثيرة للشفقة والسخرية معًا، كومة من الذكريات المخبأة في دهاليز مظلمة أحاول محوها ولا أستطيع؛ لأنني بكلِّ بساطة لم أقم بمحوها في تلك اللحظة، فخاخ لروائح وجع ظلَّت هناك عالقة لم أقتحمها منذ زمن، صناديق من الصور المفجعة، صورة لحب مكلوم أو انتقام من شخص آذاني ذات يوم، أو موقف ساخر، أو خطيئة ارتكبتها من غير وعي وندمت عليها، ومع كل هذا الضجيج أبحث عن بقعة ضوء في العتمة، أتمنى لو أنني في غيبوبة مؤقتة. وفي لحظة صمت بيني وبيني، أحاولُ أن أمدُّ يدي نحو المجهول أجرجر أذيال الخيبة وأكفُّ عن التفكير والاستحضار محاولة التماسك أمام كلِّ هذا الكم الهائل من السقوط والانحدار؛ لأنه عندما تتلبَّد الروح بالخطيئة تفتح كل أبواب الفتنة وتغلق جميع نوافذ الخلاص.
كنت ولا زلتُ أختار عزلتي مع نفسي في هذا اليوم، كان اعتزالا محدودًا وعندما جاءت كورونا أصبح أكثر شراسة وأقوى من ذي قبل، تبًا لهذا الفايروس الضئيل غير المرئي كيف استطاع أن يجردني من نفسي ويجعلني أنظر لها بعين الضعف؟ كيف جعلني أنظر لها من الداخل وأخلع عنها كل محاسنها، حتى الآخرين لم يسلموا من ذلك التجريد، لقد اكتشفتُ حقائق لم أكن لأكتشفها لولاه، فـــ"كورونا" علمتني أن أسيئ الظن بمن حولي ألا أقترب من أحد وأفرّ منهم فراري من الأسد، من هنا بدأت أرتبُ كلَّ شيء بداخلي، أرتبُ الأشياء وأنظمها في عقلي، أرتبُ الناس وأصنفهم في مراتب ودرجات، كم كنتُ حمقاء! حمقاء عندما اعتقدتُ أن كلَّ البشر مثلي طيبون، محبون، مسالمون، لم آرَ نفاقهم، ومكرهم، وخِدَعِهم، ولم أكتشف أنَّني كم كنتُ ساذجة إلا متأخرًا!!
في الخيبات لا تجد من يسندك ويقف وراء ظهرك، وفي الأفراح يتهافت الجميع نحوك وهم يضمرون لك السوء.
في نضالك للوصول تعاركُ الحياة وحدك وعندما تصلُ يرحِّب الجميع بك ويتمتمون بأنَّهم سبب نجاحك، وأنك سبب إخفاقاتهم.
أشفق كثيرًا على الذين يوهمون أنفسهم بأنهم عظماء فيخلع الناس عليهم كل صفات التبجيل ويمنحونهم أعظم الألقاب، بينما تسيطر عليهم عقدة البارانويا، أشفق كثيرا علي أولئك الذين يعتقدون أنَّ الكرسي سيظل معهم للأبد، فيتجبرون ويكيلون التهم لمن أهم أقل منهم بينما عقدة النقص تلازمهم، أشفق أكثر على كلِّ من يرتدي ثوب العفة والفضيلة وهو يعاني جوع الغواية ويلعق كأسها كلما أختبئ عن أعين الناس.
في يوم الجمعة أتجمَّل فألبس آخر صيحة من صيحات الموضة، أتطيَّب بأفخر أنواع الطيب والعود وأتعطر بأفخم أنواع العطور، وأتزين بأغلى أدوات الزينة وليكتمل المشهد أثِّث منزلي بالأثاث الفاخر، وأمتطي سيارة فارهة آخر موديل، ولا أكتفي، لأنني ببساطة أجيد التذمر والشكوى وأمارس أنواع الجحود لكلّ النعم.
في يوم الجمعة تحلِّق أرواحنا نحو السماوات حيث الوعد الحقّ حيث النور والضوء، أستمعُ لصوت عبدالباسط عبد الصمد صوت روحاني، أمي – رحمها الله- هي من زرع هذا الحب في نفسي، كان صوته يملأ بيتنا كلَّ صباح، أتحرَّرُ في هذا اليوم من أشلاء وبقايا الأسبوع، من حقدي من وجعي وشجني ومن بعض البشر بل ومن كل ما يثقل هذه الروح ويزعجها، في يوم الجمعة أسترجع لحظات الفرح أتواصل مع من أحبُّ أتنفسُ الفرح منهم ومن كلماتهم.
في هذا اليوم أتصالحُ مع ذاتي، حيث تقبع في أقصى الروح طاقة تأمليَّة وتشعُ منِّي هالة مليئة بالحبِّ والفرح والسعادة، لترسم لوحات ملائكية تمدُّني بجداول من نور وتبلِّل رحيق روحي، وتترك بصمات الإيمان تجري كشلال هادر تملؤني يقينًا.
كلُّ هذه الطقوس المتناقضة أمارسها في يوم واحد كمية وخليط من المكر والختل، والنزاهة والاستقامة، هل يعقل أنَّ هذه تركيبة بشرية لدى الجميع أو هو فخ ننصبه لأنفسنا أم أنَّ الحياة تتعمَّد بشتَّى الطرق الإيقاع بنا؟؟؟